وعندما أبلغتهم بما يجول في كنفها قالت والدتها:
- أمجنونة أنت، أي حلم هذا الذي تعيشين، أي حب عنه تتحدثين، حب أحمق في طياته تسكنين، أم حب ضائع عنه تبحثين.. سوف تجلبين لنا العار وتهلكين.. ومتى كان للحب أهمية، وأي حب هذا الذي سيحيى مع الاحتلال، قتل البشر وتعتقدين بأن الحب مازال موجود..
ردت سعاد:
-أليس العار أن نترك أهلنا يُعذبون ونحن هنا لا نسأل، أليس حراماً أن ندعهم يقاسون، ونحن هنا صامتين ولا نُسمِعُ أصواتنا للعالم بأن رجالنا أسرى، سوف أذهب وان كان عار لديكم بأن تخرج المرأة لتشارك الرجل في كل مهامه، لتسانده وتمده بالدعم المعنوي الذي لا تعرفون في هذا الزمان قيمته، مازال لدي شفقة، رحمة وحنان، رغم الحرب والأحزان، ألم يحن الوقت كي ننهض من سباتنا الذي طال أمده، ألم يأن الأوان كي نبصر النور، ألم يحن الوقت كي نبرهن للعالم بأننا موجودون على خارطة فلسطين الجريحة، لقد حان الوقت لندافع من أجل الحب، لِنُعلِمَ الناس حب الوطن، سأذهب والله لأن منعتموني سأقتل نفسي، أرجوكم كفاكم تعذيباً.. وخيَّم صمتٌ قاتلٌ على المنزل، وحينها وأخيرا توقدت العاطفة بقلب والدها:
-ابنتي الوطن هو الأم، الحب هو نصف الحياة، والتضحية هو نصفها الأخر، أخلصي النية لله وحده، وأذهبي فوالله ليس هناك شيئاً يضاهي الحب في الحياة،
قالت سعاد
-أبي تعاهدت و(عمار) أن لا يفرقنا شيءٌ في الحياة سوى الموت، وأنا لا يطيب لي عيش بعد أن افترقنا، أبعدتنا الحرب ولكننا أقوى منها... وأنقطع الحديث بعد أن أطربت آذانهم أنغام أغنية وطنية يتخللها أصوات قنابل العدو، ضربات أقدامهم تدق الأرض وتسحق كل ما عليها، بكاء الأطفال، نحيب النساء، شعارات وطنية..
قررت (سعاد) الخروج في تمام الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، كم كان صعباً مشهد وداعها لأبنها الصغير و أبنتها ذات العشرين ربيعاً، اللذين كانا كل الحياة، هما كل ما تبقى لها من هذه الحرب اللعينة، هما الحب الباقي، هما الأمل المقتول.. أخذت تمسح على شعر أبنها وتقول: إلى الحرية فلنمضي، للوطن فلنعطي، للحصول على الكرامة فلنسعى، لقد كان والدكما شجاعاً، وهاهو قد وقع في الأسر، وأحتمل الكثير لأجلنا، يجب أن نساعده ونطلق سراحه، لنعيد أسطورة الدفاع عن الوطن...
أي حرب هذه، حرب سلبت من الأطفال ابتسامتهم وبراءتهم:
-أمي ما الحرب سوى الموت فلنمت أعزاء شهداء، كنت أتمنى لو أني رأيت والدي، كنت دائماً أنتظره فيملني الانتظار، فأعود إلى وسادتي التي كنت عليها ابكي، وأشكي.. ولكم بكيت تلك الأقدار التي أبعدتنا، وكلما تذكرت صورة الشهيد أخي رأيت أبي.. لكم تذكرت الشهيد الذي أدمع العرب والأجانب محمد الدرة، أمصير أبي كذلك، أهي نهايته، كلا هي نهاية الكون أجمع.. كنت أحتضن صورته كل ليلة، كلما نظرت إلى القمر كنت أراه يسكن بداخله، فأحلم بالتحليق كي أصله وأقبله وأعانقه، لطالما رسمته شمسا للحق، سيفا مسلطاً على الظالمين.. لِم كل الأطفال لديهم آباء وأبي غائب، لطالما حدثت زملائي عن بطل شجاع أسير غائب،اسمه أبي.....
طفل صغير هز مشاعرها، فأبكاها، طفل صغير منعته الجرب من أن يفكر بكل ما يشغل عقول الصغار من الحصول على الدمى و الملابس، والنقود، فاق تفكيره كل الحدود، يا ويلاه أصبح عصفوراً سجيناً في الأسر...
-هذه الحرب التي شردتنا وفرقت شملنا،ولكني أعدك بأني سأعود أنا و والدك ونجدد الحب الذي تلاشى ونكون أول عاشقين في زمن الحرب.
وحانت اللحظة الفاصلة، تلثمت وخرجت متخفية من أعين العدو، لقد كانت خائفة بعض الشيء، ولكن السعادة كانت تملأ فؤادها، فلديها أمل بأن تلقى من تهوى. وصلت إلى المكان الذي سجن به، قصرٌ واسعٌ وجميل، في أعلاه علية صغيرة لاتصلح لإيواء البشر، سُجِنَ بها، ومع وصولها بدأ نبض قلبها يتسارع ويرتفع، إنقطع نفسها، كانت تخشى بأن يُكتشف أمرها ، وتذهب كل أحلامها هباء، فمع معرفة قدومها ينتهي كل شيء، حسبت خطواتها، كتمت أنفاسها، كانت تمشي بكل حذر، وكأنها تؤدي دوراً في فيلم بوليسي، تسللت وعبرت حدائق القصر وهناك حدث ما لم يكن بالحسبان، القصر مليء بأجهزة الإنذار المخفية، وبينما هي سائرة في الظلام، اصطدمت بأحد التماثيل فأصدر صوتاً وحينها اندلعت أصوات أجهزة الإنذار وبلحظة تجمع حولها خمسة حراس ضخام أقوياء تسَّمرت قدميها، كادت تسقط أرضاً فقدت الإحساس من جسدها، أدركت بأنها لا محال قتيلة، ولم يأتِ إلى مخيلتها في تلك اللحظة سوى صورة وحيديها اللذين تركتهما ولن تستطيع العودة إليهما، ندمت لاتخاذها قرار إنقاذ زوجها، ظنت أنها قد تسّرعت، وكان يجب أن تفكر أكثر، قيّدها الحراس وأخذوها إلى غرفةٍ واسعةٍ مليئةٍ بالنوافذ والأبواب، إنها غرفة قائد الجند اليهودي، أخذت تنظر من حولها علها تجد مخرجاً لتنجو بنفسها، ولكن الأبواب لم تسعفها، والنوافذ المرتفعة أرهبتها،فجلست أرضاً تندب حظها العاثر...
وبعد دقائق دخل القائد الخائن قائلاً :
- ماذا لدينا هنا ؟ امرأة جميلة تخاطر بحياتها وتأتي إلى حتفها بإرادتها ؟أخبرينا لماذا فعلت ذلك؟ألا تعلمين بأنه لدينا رجال لا يجيدون التعامل مع الجنس اللطيف؟..
وهنا تمنت لو أن الله ينزل عليها الرحمة فتموت قبل أن يؤذوها:...
ولكنها ما لبثت أن أجابته:هل أنت حقاً أبن هذه الأرض؟ لأن فلسطين لا تعتز بأن تكون على أرضها، أين عروبتك؟...أليس لديك شرف أو كرامة، أتفتقر إلى الرحمة و النخوة أهذا ما تفعله بابنة هذه الأرض الطيبة التي نشأت عليها؟
أبعدت يديه التي كانت تطوقها ، فاستشاط القائد غضباً فهو الذي اعتاد ألا تعصى أوامره...
أيها الحراس عذبوها، اِجتثوا أظفارها، كسِّروا عظامها، فلترى حنانكم وتعاملكم مع الجنس اللطيف...
وصل الخبر إلى (عمار) الذي فرح بقدومها فزوجته مازالت مخلصةً له، تحفظ اليمين الذي قطعته على نفسها يوم الفراق،ولكنه لم يكن مدركاً لحجم المعاناة التي تتلقاها الآن،فالحراس قاموا بحقنها بفيروسٍ قاتل ،وما أن وصله الخبر حتى اسودت الدنيا أمام ناظريه ،وفارقت الحياة جسده النحيل...
تمكن الطغاة من معرفة أن زوجها (عمار) موجود لديهم وأنها جاءت لتحريره،وليزيدوا عذابهما فقد وضعوها في زنزانة مقابلة لزنزانته..
نظر إليها فمن أول نظرة أحبها ومن أول نظرة تمنى لها الموت كي تتخلص من عذابها،وأمام ناظريه أخذت تذبل كما أزهار الربيع ، فأخذ بريقها يخفت و رونقها يخبو فهو لا يملك شيئاً يرد لها شبابها سوى كلمات يشجعها بها تقتات عليهن ...
وبعد رحلة عذاب دامت لخمسة أيام دخل القائد محاطاً بالجنود إليه وهو ممسكاً برأس (سعاد) دافعاً به بقوة إلى القضبان و كأنه يريد تحطيمه ثم أردف قائلا:ً
أرأيت بأن الحب لن ينفعكم شيئاً هنا ؟
فأجاب (عمار)
بل الحب أقوى منك و مِنَ الذي فعلته وسأبقى أحبها رغماً عنك وعن هذا الزمن الغدار.
حسنا بلى ثرثرة، والآن أنت وحدك القادر على تخليصها من عذابها وعلى تغيير حياتكما كلياً فما رأيك؟...
أنا و لكن كيف ذلك وأنا أسيرٌ في هذا القفص الضيق؟.
فرد الضابط وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة ماكرةً: سنخرجك من هنا أنت و زوجتك وتذهبا بأمان الله...
دهش (عمار) من كلامه اعتقد بأن الضابط قد فقد رشده.
ومن أين هذه الرحمة والشفقة، أم أنه لم يبق لديكم متسع للأسرى..
كلا بل مقابل أن تتحالف معنا، كل ما نطلبه منك هو أن تنضم إلى المقاومة، تتجسس على الخطط التي يرسمونها للإيقاع بنا، وتعود لتأخذ زوجتك.
حسناً دعني أفكر قليلاً، فكما تعلم القرار صعب، فليس من عادتنا خيانة الوطن الأم....
ليس هناك وقت للتفكير فزوجتك تفقد في كل لحظة جزءاً من حياتها وتتساقط كأوراق الخريف..
وخرج الضابط ليتركه في حيرةٍ من أمره، تركه ليختار بين أمريين، بين الخروج والعودة إلى ربوع أرضه وأسرته، وبين خيانة أرضه. ولكن لا يهون عليه خيانة وطنه، ولكن زوجته وحبيبته أيدعها تموت أمام ناظريه ولا يضحي لأجلها كما ضحت لأجله..
وهنا قاطع تفكيره صوت يملأه الألم:
لا يا (عمار)، فقد قتلوا أبنائنا، ولم يبق لنا سوى (جهاد) و (مجدولين))...
-كيف، ومتى، اللعنة على هذه الحياة لماذا نعيش، لكي نتعذب أكثر، لكي نشهد مآسي أكبر..
وفاضت عيناه بالدموع... وفي اليوم التالي جاء القائد :
ماذا قررت؟ أتخرج وتنجو بنفسك، أم تموت أنت وزوجتك هنا.
أخرج وأنقذ زوجتي.. ولكن دعني أودع زوجتي أولاً.
نسمه الربيع