سمعت (سعاد) ما ذُكِرَ في المذياع خافت خوفا شديداً ولم تدرِ ما الذي يتوجب عليها فعله، ففوضت أمرها لله وبعد أيام قلال طرق باب منزلها، اعتقدت بأنه الفرح قد طرق بابها، ولكم تمنت بأن يكون ذلك البطل المسافر (عمار)، ولكن آه للقدر وألف آه على قلب ذاب حرقة، انه قائد الجند ألقى التحية العسكرية وقال::
إن زوجك أول شهيد في هذه الحرب رحمه الله ضحى بنفسه ليحمي أرضه.-
اعتقدوا بأنه قد قُتِلَ ولكنه كان قد وقع في الأسر بعد غارة شنتها القوات الصهيونية على مواقعهم.. لم يتحرك لأحد مشاعر تجاه هؤلاء الأسرى والمحتجزين.. اكتفوا بالكلام وكأن الكلام يشبع حاجات الإنسان لو أن للغرب وقع أحدهم في الأسر لأقاموا الدنيا ولم يقعدوها لقلبوها رأسا على عقب...
احتمل(عمار) عذاب الأسر، عذاب الألم، عذاب البعد والشوق، فأصبح أسير العذاب، رهين الأسر، قام الضابط اليهودي في الأسر بإنزال أقصى العقوبات دون أية رحمة، عقوبات لا يحتملها ولا يطيقها أي انسان، ومن يعل هذا التصرف مع أناس كرمهم الله بأنهم سكان المسجد الأقصى، من يقوم بهذا العقاب سوى انسان بدون مشاعر نزعت منه الرحمة الربانية.. أصبح الحال سيئاً جداً فقد اُحتجز هؤلاء الأسرى في المخازن والسجون الضيقة وتلك الأماكن التي لاتصلح لإيواء الجنس البشري، أطلقوا على هؤلاء المجاهدين صفة الإرهابيين، وليكملوا آلامهم تركوهم بلا طعام، بلا ملابس، بلا دواء، جمعوا الأسرى وقاموا بإعدام أعدادٍ هائلةٍ منهم بحجة إرهاب الشعب، وفي هذه الأثناء كانت (سعاد) قد استسلمت للحياة، تساوت لديها الأمور، فلن يحزنها شيء آخر أكثر من وفاة زوجها، خضعت للقدر الذي كُِتبَ لها، فعلقت بقايا أحلامها على أطفالها، فربتهم ليكبروا وتفرح بهم، ولن آه من ثعبان لا يترك أحد دون أن يلدغه، وإن وجد من لم يلدغه أعاد الكرة على ضحاياه. ولكن كيف يوجد الفرح وفي كل يوم يقتل لنا أطفالٌ أبرياء.
وبعد مرور عشر سنوات وفي إحدى ثورات الحجارة في منطقة غزة شهدت ساحة القتال جريمة بشعة، إكتملت بها أحزانها، جريمة وحشية قامت بها قوات الإحتلال، بإعدام ابنها البكر بحجة أنه ينتمي الى إحدى المنظمات الإرهابية، علقوا حبل المشنقة في عنقه أمام الجميع، أمام ناظري أمه، ولم يكتفوا بذلك بل مثلوا بجثته وتركوه معلقاً في الساحة غادر الجميع بعد أن فاضت الدموع، دقيقة صمت على روح الشهيد، ولكن لايشعر بالحزن سوى من عاش به، فكيف تحتمل (سعاد) مقتل بكرها أمام عينيها، ولا تستطيع أن تنقذه، ذهبت إليه وفكت قيوده بيديها الى أن سالت دماءها، عانقته فاختلطت دمائه الطاهرة بجسدها الهزيل، عانقت روحها روحه، بكت إلى أن جفت دموعها، صرخت ،و تأوهت فأبكت الجميع هزت مشاعرهم، فأيقظت قلوبهم النائمة، صرخت صرخة أم تتألم، صرخة زوجة وحيدة تعاني، مستنجدة.. وبقيت في المنزل تتلوى من العذاب ولكي تكتمل مصائبها هاهم أهلها يجبرونها على العودة إلى منزلهم فكيف تترك بيتها، كيف تخون الوعد ولكن أهلها كانوا حريصين على سمعتهم، قاومت ولكن دون جدوى، وصل الخبر الى أهل زوجها وهم أيضاً كانوا سبباً من أسباب شقاءها وحزنها، أخذوا الأطفال وتركوها تذوب كما الشموع، تذبل كما الورود، بعد أن كانت شابة، ضاع شبابها، انخفت بريق عيناها اختفى النور من وجهها .. آه أين أنت يا (عمار) أين أنت لترى ما حل بمن كانت اجمل من بلقيس نزار، وجولييت روميو .. أين أنت.
وعمت المظاهرات والاحتجاجات في كافة أنحاء البلاد مطالبين باستقلال البلاد، مطالبين بالحرية ووقف إطلاق الرصاص، ولكن صوتهم كان خافتاً، ضعيفاً فلم يطرق مسامع أحد، فاحتملوا العذاب وحدهم لم تكن قضية احتلال بل كانت قضية شعب نُهِبت أرضه، وهُضِمت حقوقه، عمت الثورات في كل أنحاء منارة الإسلام وأخيراً استيقظ ضمير العرب، وهبوا لمناصرة إخوانهم فشاركوهم أتراحهم وأفراحهم، آلامهم وآمالهم، مع كل ما يمتلكه الغرب من أسلحةٍ إلا أن حجارة صغيرة وقفت في وجوههم، وقهقرت صفوفهم، فألحقت بهم خسائر فادحة.. أخيرا توحدت أمة الإسلام لأجل طفل جريح لا يجد من يؤويه ويفتح له أبواب الحنان...
وقف الشعب صفاً واحداً، وكانوا أسرةً واحدةً، ومع هذا لم يتمكنوا من إخراج اليهود فاستمرت عمليات الأسر والتعذيب واحتملوا أصعب عقوبة وهي الفراق وهم على أرضهم، ذل واضطهاد، تشريد وقتل، إهانة وغيرها من تلك الأساليب القاسية، لايملكون في قلوبهم أي رحمة، لقد نزعها الله منهم وأبدلها بقلوب أشد صلابة من الحجارة
احتمل (عمار) العذاب لأجل الحب، و(سعاد) صابرة رغم الأحزان، رغم كل الجراح التي تركتها الحياة
في ليلة الرابع عشر من فبراير، إنه يوم الحب، يوم للاحتفال بالحب ولكن بلا حب، ذهبت إلى منزلها لإحياء ذكرى هذا اليوم، لربما لو كانت تعلم ما سوف يحدث لما ذهبت ولكن الأقدار قد شاءت أن تفقد في ذلك اليوم كل أبناءها عدا أصغرهم، كانت تضمه إلى صدرها من خمسة رجال للمستقبل لم يبق لها سوى رجل صغير واحد، لا يقوى بعد على مواجهة الحياة، و(مجدولين) تلك الشابة التي كانت تخشى عليها (سعاد) أن تكوى بنيران أحرقتها... أظلمت الحياة في وجهها، أُطفأت الأنوار كلها، على من سوف تحزن، على زوجها القتيل، أم على أطفالها الشهداء، لم يعد لديها دموع لتسقط على من قتلوا، بل هل للحزن مكان أكبر في قلبها وبعد ما شهدته من مآسي عاهدت الله بأن تربيه وتنشئه على الإيمان وحب الوطن وكيف يكون رجلاً صانعاً للمستقبل كزوجها الشهيد، عادت إلى منزلها تجر أذيال الخذلان، وخيبات الأمل ورائها...
ومرت السنوات محرقة قاسية. و بعد فترة تمكن أحد الأسرى من الهروب يحمل معه أمانة من (عمار)، هرب ولم يخش الموت لم يطق السجن وعذابه كعصفور كسير الجناح بعد أن كان حراً طليقاً، اكتشف الجنود أمر هروب الأسير فقاموا بتعذيب كل الأسرى لكي يعترفوا ولكن يا ويلة الخائن لوطنه ولأصحابه، لا أحد يعترف لقد كانوا أبطالاً شجعان ورغم صمودهم إلا أن الضباط اكتشفوا أمر علاقته ب(عمار) لقد كان صديقه الوحيد فعذبوه هددوه بالسلاح ولم ينفع معه وحينها دخل أحد الضباط شاهراً مسدسه بوجهه قائلا:
إن لم تعترف سأحول حياتك جحيم لا يطاق و إن اعترفت فسوف تغير مجرى حياتك وتنعم بعز وجاه لم تكن تحلم به...
) فقال (عمار
- لايهمني عز في الدنيا، لا أطمح لأن أكون ملكا، نموت لتحيا الأجيال فينا، نموت لنسقي أرضنا بدمائنا، لنجعل من أجسادنا جسراً إلى مستقبلٍ أفضل مما نحيا به، أنا أبن هذا الوطن نشأت على ترابه وماءه، صمت قليلا ليجمع قواه ورد بكل عنفوان وكبرياء: والله لأن قتلتموني ومزقتموني فلن تعرفوا أي شيء مني.
فلطم الضابط الإسرائيلي الفلسطيني الأصل وجه (عمار) صارخاً بجنوده
-عذبوه لا ترحموه مزقوه وخرج مسرعاً.
وإذ ب(عمار) يجد نفسه بين أقدامهم وكأنه حشرة يريدون سحقها، ولكنه احتمل العذاب كله محتسباً أجره عند الله.
وبعد عدة أيام تمكن الأسير الهارب من الوصول إلى المكان الذي أرشده له (عمار) ولكن سرعان ما دبت الحيرة به أي منزل هو، وكل المنازل تفوح بطعم الجراح، كل المنازل مصبوغة بلون الدم الأحمر، طرق باب أحد البيوت، لم يكن يعلم بأنه منزل (عمار) فاتبع حدسه.. دقائق قليلة انتظر على باب المنزل.. وبينما (سعاد) في الداخل تعاني في براثن الشوق والحب والتعب، أملت بأن يكون هو، ثم عادت لتقول في نفسها: أمجنونة أنا أمازال لدي أمل.. أطلت من الباب كعجوز رمى الزمان كل أحماله عليها.. هي تنتحب غارقةً في بحر أحزانها العميق، جاء فرج الله، حانت لحظات الفرح، موعد مع السعادة تنتظره منذ أعوام،
قال الرجل: أأنت (سعاد)، زوجة عمار؟..
أحست بداخلها بشعور غريب لم يسبق لها أن أحسته : بلى أنا هي، ماذا هناك؟.. فأجابها: إن زوجك يقرئك السلام.
وبلهفة عاشق ولهان، بلهفة أم على أطفالها، بشوق من فارق أحبابه وعاد ليتجدد لقاءه وقد ارتسمت البسمة على شفتيها:
-أين هو، أهو حي يرزق، لِمَ لم يأتِ أخبرني هل أصابه مكروه، وصمتت حائرةً لتسمع أجوبةً لأسئلتها الحائرة..
فقال الأسير الحر:
- إنه يبلغك أنه قد وقع في الأسر، وقد أرسل إليك هذه الأمانة خذيها، لم تستطع (سعاد) أن تكتم فرحها ودت لو تصرخ، لو تزغرد، فقد ابتسمت لها الدنيا من جديد، أحبت الحياة بعد أن تمنت الموت، عانقت كل حرف بتلك الرسالة، الآن تأكدت بأن حبهما ما زال يحيا بأمان، رغم الاحتلال والأحزان.. وضمت الرسالة إلى صدرها وأسرعت بقراءتها، فتحتها فوجدت بها كل الشوق والحنين، كان قد كتب كل حرف منها بإحساس صادق مرهف كما عهدته منذ أول لقاء لهما.. فقال بها:
-(إليك يا من لها أحيا، إليك يا من سهرت ليالي لأجل عينيها، يا مصنع الرجال الأبطال، وبعد السلام، أُسِرتُ رغماً عني، طُعِنتُ من الظهر، لم أكن ضعيفاً فأنت تعلمين بأني كنت قوياً لا أخشى الموت، تعرفين بأني كنت أحلم بأن أبذل روحي لأحمي تراب الوطن، كي أكون ترساً أقي الشعب من هلاك.....
حبيبتي أنت تعلمين أنه رغم بعد المكان، رغم الهجر طوال هذا الزمان، بأنك كنت تسكنين في قلبي، فلنحيا لأجل الحب، لأجل أن ندافع عن الوطن، لننير المستقبل، لنحقق أمانينا.. مهما طال الغروب لابد أن تمد الشمس خيوطها المشعة وتضيء الكون وأنا كذلك مهما غبت وابتعدت فسوف أعود يوماً ما، سأعود من المدى البعيد، سأعود من حيث هاجرت الطيور.. أخبري النجوم والقمر، كل البشر، الشوارع وحتى حبات المطر، بوحي للشجر.. أنشري الخبر، بأني سأعود ونعيد أيام السهر.. انتظريني مع كل غروب شمس وشروقها، انتظريني حين تمد الشمس خيوطها.. انتظريني كلما انحنت الشمس ليسكن القمر.. انتظريني مع كل مساء.. مع كل نبضة من قلبك، مدني أنت، باريس انت لا تهدئين، كقسطنطينية تحبين، كبغداد مجروحة، كالقدس محزونة تتألمين.. كدمشق كل ليلة تغفين..) ....
) زوجك المخلص عمار)....
وأخيراً وبعد سنوات انتظار، أعوام من الشقاء، تجدد الأمل بها، حان دورها لتضحي من أجله، كما ضحى هو، أخذت تلك الرسالة وذهبت الى مركز الأمن، لتخبرهم بما حدث، اعتقدوا بأنه قد أُستشهد، لم يكلفوا نفسهم عناء التحقيق في قضية هؤلاء الأسرى ، ولكن الآن لديها ما يثبت صحة كلامها وفي مركز الأمن انهالوا عليها بالأسئلة ، اتفقوا على رأي واحد ولكن سرعان ما دبت الانقسامات، فمنهم من رفض إقامة التحقيقات وبعضهم أصروا على التحريات، وهي تقف أمامهم وعلى وجهها علامات الاندهاش، تسأل نفسها: أين كانوا طوال هذه المدة...
وعدوها بأن ينقذوه وكل الأسرى الذين معه محتجزين، أما الأسير الطليق فقد عثرت عليه قوات الأمن مقتولاً في إحدى الصحاري متأثراً بجراحه التي غطت كل جسده، كان يرفض أن يعيش ذليلاً لليهود، أسيراً يحتمل العذاب والعالم بالخارج يلهون ويمرحون ولا أحد يشعر بهم . وجدوا إلى جانبه علم فلسطين ورسالة كتب بها:
(وطني دمي فداك، في قلبي هواك، أُسِرتُ في سجن ضيق هناك، مت لأجلك، لأجل عُلاك، رحت شهيداً لأنال رضاك. كيف ينام العرب وأنت ساهرة عيناك؟ متى ينهضون ويهبون لاسترجاعك لتنشر هداك، كيف ينامون وأنت ساهرة عيناك؟ كيف يضحكون ولا يبكون وأنت قتيل في ساحات العراك، كيف؟!)...
طالبت قوات الأمن الفلسطينية بتحرير كل الأسرى ولكنهم فشلوا في مطلبهم كعادتهم، فقد وضع اليهود شروطاً تعجيزية، وبعد إعلانهم فشلهم عن تأمين ما طلبه اليهود حان الوقت الذي به سوف تبرهن (سعاد) للعالم بأسره، من شرقه إلى غربه، أن الحب يصنع المعجزات، أن المرأة ليست ضلعاً قاصراً بل هي قوية، مضحية، شجاعة، تخاطر وتصارع الموت لأجل أن تقوم بإنقاذ من تحب، فعاطفتها تدفعها لفعل المستحيل.
قررت (سعاد) أن تنقذ الإنسان الذي أحبته، الذي وهبته حياتها،، وجعلتها ملك يديه، رهن قلبه، أخبرت أهلها بما قررته فوقفوا معارضين حرصاً عليها من مصير نهايته الموت أو عار يمتد ولا يمحى، كانت (سعاد) تعلم مسبقاً ردة فعلهم ولكن مازال لديها القليل من الأمل، الذي لربما به يقتنعون أن الحياة ليست مصالح وأموال بل حب ووفاء، يقتنعون بأن الحب لن ينتهي مع الحرب.
نسمه الربيع